top of page

وصف الذئب للفرزدق

1 -الأبيات : وأطلس عسال وما كان صاحبا *** دعـَوت بنـاري مـَوهِـنا فأتـاني فلما دنـا قلت ادن ،دونـك ، إنّني *** وإيـاك في زادي لـمشـتـركـان فـَبـِتّ أقـُدّ الـزاد بـيـني وبـيـنــه *** على ضَـوء نـارٍ مـرّة ودخـان فقـُلـت لـه لـمّـا تكشّـر ضاحكـا *** وقائـم سـيـفي من يدي بمكـان تعـشّ فإن عاهدتني لا تخـونني *** نكن مثل من يا ذئب يصطحبان وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما *** أخـَيـّيـْن كـانـا أرضِعـا بـِلـَبـان ولو غيـْرَنـا نبّهـتَ تلتمس القـِرى *** أتـاك بسـهـم أو شـَبـاة سـِـنـان وكلّ رفيـقـَي كلّ رحل وإن هما *** تعـاطى القنـا قوماهما أخـَوان وإنـا لـَتـَرعى الـوحـشُ آمنـةً بنا *** ويرهبنا – إن نغضبِ- الثقلان

فالذئب : أطلس اللون ( فيه غبرة إلى السواد ) أتاه يعسل ( يسرع بمشية مطّربة) وهذه مشية الراغب في الحصول على شيء يريده متلهفاً إليه . والفرزدق في أخرة من الليل وهدْأة فيه أشعل النار ليأنس في هذا الليل الهادئ البهيم ويرى ما حوله خشية أن ينقض عليه وحش أو هامة ، وشغل نفسه بالشواء ، أو بغيره ، فالزاد يُطلق على ما يتزود به المسافر أيّاً كان . ولم يكن الفرزدق يرغب في رؤية هذا الذئب الذي دعته النار ورائحة الطعام إليه ، ولكنه بإشعال النار كانت الدعوة ، وما كل من أوقد النار رغب بالضيف . والدليل على أنه لم يرغب فيه قولـُه : دعوتُ . ولم يقل : دعوته .- دون النظر إلى وزن البيت - لكنه فوجئ به يعسل باتجاهه . لقد أجاب الذئب دعوته مسرعاً ، وكان يودّ لو كان المجيب غزالاً أو حيواناً أليفاً يأنس كل منهما للآخر في هذه الفلاة القفر . لقد كان الفرزدق خائفاً ، ولو ادّعى الشجاعة والبطولة . لقد كشف نفسه من حيث كان يريد أن يمتدحها لعوامل عدة ، منها : 1- أنه قال للذئب :( ادنُ )، ولن يحتاج الذئب لسماح الفرزدق له بالدنوّ ، ولكنّه إثبات للذات وسبيل للتحدي . 2- لقد قال له متحفزاً للدفاع عن نفسه بعد أن اقترب أكثر : (دونك ) إياك أن تقترب أكثر من هذا . 3- اضطراره مشاركته في زاده ، فهو ابتداء لم يدْعه ، ولكنْ لا بد مما ليس منه بُدّ ، فالذئب جائع وقد أسرع إليه ودنا منه يريد أن يأكل الشاعر ، فإن لم يستطع فما يقدمه الشاعر له . 4- قال : ( في زادي ) فالزاد للشاعر وهو في الظاهر يكرمه إلا أنه مضطر أن يشاركه فيه ولو كان زاده ، وكان أولى أن يقول ( في الزاد ) بغض الطرف عن وزن البيت ، فنحن نغوص في نفسية الشاعر ونقرأ ما وراء السطور . 5- ثم قوله ( إنني وإياك) وكان المختصر المفيد أن يقول ( إننا ) 6- التوكيد المتكرر في قوله (إنّ مع الضمير المتصل ، ثم الضمير المتصل المنصوب : إياك ، ثم اللام المزحلقة في : لمشتركان ) حديث مستفيض يريد أن يملأ الوقت ويسمع الذئب صوته القوي فيبعده .. وكثيراً ما نرى الخائف في الليل أو في مكان موحش يكلم نفسه بصوت عال يواري به خوفه ، ويسرّي عن نفسه . 7- وتصور معي الفرق بين ( أقدّ الزاد ) و( أقطّ الزاد ) فالقدّ بالدال أقوى من القَطّ ويحتاج إلى عزم أشد وتلويح بالقوة أكبر . 8- ويستر خوفه بصوت ( القدّ) يري الذئب – على ضوء النار تارة وضوء الدخان تارة أخرى – عملية ال( القدّ ) هذه ( يعتمد على الصوت واللون ) في إبعاد الذئب عن الوثب نحوه . 9- لا شك أن الحريص على حياته أمام الذئب يظل ممسكاً بقوة بمقبض سيفه ، ولكن حينما تدعو أحدهم إلى طعامك ، ويظل مكشراً يبغي المزيد أو الوثوب عليك تطرده وتمتنع عن الاستمرار بإطعامه ... أما أن تقول له بعد كل ما قدمتَه – غير عابئ بك – يضحك منك مكشراً ( تعشّ) فهذا استجداء للأمان مغلف بالخوف والرغبة بالسلامة في أدنى صورها . 10- وبعد كل هذا يطلب إليه العهد بالأمان وعدم الخيانة ( فإن عاهدتني لا تخونني ) 11- كما أن الخوف ظاهر بوضوح في تكرار كلمة ( يا ذئب ) . فكيف يطلب الصحبة والعهد من غدار؟ بل إن الذئب أُشرب الغدر فكان صفة ملازمة فيه ! ومع ذلك فهو يريده أخاً وصفياً فالذئب عند الشاعر ( امرؤ) وإنسان سوي يمكن معاهدته !: وكلّ رفيـقـَي كلّ رحل وأن هما *** تعـاطى القنـا قوماهما أخـَوان ونعتقد أن الشاعر تأثر لغدر نوار إياه – كما يرى - فغلف غدرها بقصة الذئب . نثر بعض الابيات: دعوْتُ بنارِي مَوْهِناً فأتانِي (1) وأطْلَس عسَّالٍ وما كانَ صاحِباً (ما كان صاحباً) يقصد غير مؤهل للصداقة وذلك ؛ لأن الصداقة أهم ما تفترضه الوفاء ، والذئب يتصف بالغدر. أي يمكن القول أنها كناية عن (صفة) الغدر. بالإضافة إلى ذلك وصفه بصفتين أخريين هما: غبرة اللون ، واضطراب المِشية. (دعوت) حذف المفعول به ؛ للايجاز، التركيز على حدوث الفعل من الفاعل . (موهناً) تشيرإلى زمان الدعوة المتأخر من الليل ؛ مما يعني بلوغ كلاهما مبلغاً شديداً من الجوع. شخّص الذئب ؛ بأن قدّم له الدعوة . نثر البيت : ورب ذئب أغبر اللون ، مضطرب المِشية، لم يكن أهلاً للصداقة، إلاَّ أنني قدمت له دعوه للعشاء في آخر الليل ،مستعينا على ذلك بحطبي الموقد، فما كان منه إلا أن لبّى . (2) فلمَّا دنا قُلتُ : اُدنُ دُونَكَ إننَّي ** وإياك في زادي لمشـتركانِ (قلت) في خطاب الذئب – هنا - وفي القصيدة – عموما - إنزال له منزلة الإنسان العاقل ؛ وهومايعرف – جماليا – بالتشخيص . من خلال البيت نستطيع أن نصف الشاعر بالكرم ؛ لدعوته هذه ، وبالعدل؛ لإشارته للاشتراك في طعامه ، وفي قوله(دونك) إحساس بالشجاعة ، (إن ، اللام) أدوات توكيد للخبر؛ ممايعني أن ضرب الخبرإنكاري . وقد لجأ إليه الشاعر؛ لما أحسه من غرابة الخبر لأننا – غالبا – ما ننكرصدقه فأكده بهذين المؤكدين ، والذئب نفسه لا يصدق سبب الدنو الذي طُلٍبَ منه . كثرة تكرار حرفي (الدال) و (النون) في البيت جعل الجرس الموسيقي عاليا ورنانا. (نثر البيت) : حين أحسست به قريباً، خاطبته طالباً منه الاقتراب أكثر، ذاكراً له أننا قد أصبحنا- في طعامي - لنا نفس النصيب . (3) فبتُّ أُسوِّي الزَّاد بينيْ وبيـَنهُ ** على ضـوء نارِ مرةً وَدخَـاْنِ من البيت نستطيع ان نؤكد وصفنا للشاعر بالعدل ؛ الذي يظهره في عجز البيت ؛ ومن عجزالبيت يمكن أن تستشف ثقة الشاعر؛ إذ لا يبالي بلحظة الدخان فيواصل عمله أي التسوية. (الدخان) نصل إلى أن الشاعر كان يأكل لحما ًمشويا. (ضوء، دخان) طباق ايجاب ؛ لما في الدخان من عتمة هي بالضد من الضوء . نثرالبيت : قضيت الليل كله أقسم الطعام بيننا مناصفة ، أشوى اللحم مثيرا ًللدخان ، لكن لا أنسى نصيبه ، فأعطيه إياه ، وأستعين بضوء النار فأقطع لنفسي شاوياً . (4) فـقُلت له لمَّا تكـشَّر ضاحكاً ** وقائمُ سـيفِي منْ يـدي بـمكانِ (5) تعشَّ فإنْ واثقتَنِيْ لا تخونُنيْ ** نكنْ مثل مَنْ – يا ذئبُ – يصحبانِ (تكشر ضاحكاً) استعارة مكنية، شبه الذئب بالإنسان، وحذف الإنسان وأتى بشئ من لوازمه وهو الضحك، على سبيل الاستعارة المكنية، جمالها في التشخيص. كذلك في البيت الثاني (ندائه، دعوته للمواثقة، عدم الخيانة) . (عجز البيت الأول) دلالة على الحذر والحرص الشديد من قبل الشاعر، ويمكننا القول إنها كناية عن (صفة) الحذر. (بمكان) أي قريبا مني ، أو تحت سيطرتي ، أو يمكنني الاستعانة به في أي لحظة . (عجز البيت الثاني) تشبيه مفرد ، شبه نفسه والذئب بالصديقين، والأداة مثل . نثر البيتين : فخاطبته عندما رأيت أنيابه بارزة ضاحكاً، وأنا مسيطر على سيفي، قادر على حماية نفسي : كُُلْْ فإن وجدت منك العهد على الوفاء، وعدم الغدر؛ لأصبحنا- أيها الذئب - مثل أي صديقين . 6- وأنت امْرُؤٌ يا ذِئبُ والغدْرُ كنتما ** أخيَّيـْنِ كانا أُرضِعا بِلبانِ (أنت امرؤ) تشبيه بليغ ، في صورة المبتدأ والخبر . (ياذئب) استعارة مكنية ، (كنتما أخيين) تشبيه بليغ ، في صورة ما أصلهما مبتدأ وخبر (اسم كان وخبرها) . (البيت) كناية عن (نسبة) الغدر إلى الذئب ، وكل هذه الألوان البيانية تصبُّ في خانة جمالية واحدة هي تشخيص الذئب . نثر البيت : وأنت رجل – أيها الذئب - والخيانة كنتما مثل أخيين رضعا من ثدي واحد ، فلا خلاف بينكما . 7- ولو غَيْرَنا نبَّهـتَ تلتمس القـِرىْ ** أتاكَ بـسهمِ أو شَـبَاهِ سِنَانٍ (غيرنا)هذا التعميم يوحي بثقة الشاعرفيما يقول.(أتاك بسهمٍ أوشباه سنانٍ) إشارة إلى القتل ، وبذا يصبح مجازا مرسلا علاقته الآلية فالسنان آلة القتل . من الغرض نصل إلى أنّ الشاعر يفخر بكرمه وشجاعته، وكأنّما يمنُّ على هذا الذئب بما فعله له مقابل فعل الآخرين مطلقاً. نثر البيت : إذا فرضنا أنك اتجهت إلى غيري من الناس تطلب زاداً ، وإكراماً ؛ فلن تلقى غير طعنة من رمح أو نبل . 8- وكلُّ رفيقي كلِّ رحلٍ وإنْ هما ** تعاطَى القنا قوماهما أخوانِ (تعاطى القنا) كناية عن(صفة) استمرار الحرب بينهما ؛ وبالتالي قوة وشدة العداوة الناتجة عن ذلك . (تعاطى) استعمالها إيحاء بالإدمان ؛ وفي ذلك تقوية المعنى مقابل لو قال (تحارب) . (البيت) دليل على أنَّ رفقة الطريق تفرض الصداقة على المسافرين ، أيا كانت الظروف قبل السفر، وهذا بمثابة تأكيد من الشاعر على حسن معاشرته للذئب ، أو تبرير لهذه الصداقة ، وهذا الكرم الذي أبداه وفيه شيء من الحكمة . نثر البيت : أي مسافرين في طريق رحلة ، وأياً كانت العلاقة بين أهليهما قبل السفر، ولو كانت حرباً ممتدة وقتالا مستعراً، فعند السفر يصبحان أخوين . 2 - فهم المضمون: يخاطب الشاعر الذئب خطاباً مباشراً، فيقول له اقترب و شاركني في زادي ولكن إيّاك أن تغدر بي، فأنت و الغدر أخوان قد رضعتما من ثدي واحد. أما الذئب فقد كانت إجابته على شكل تكشيرة عريضة يستعرض فيها أنيابه، كأنه يقول: لا تغدر بي أنت، فأنا لدي أسلحتي أيضاً، كما لديك سلاحك. تمكن الشاعر من تجسيد المشهد بدقة، و استخدم مفردات و تعابير تجعل القارئ يتخيّل الصورة في ذهنه بكل وضوح كأنه مشهد سينمائي. فأنت عندما تقرأ هذه الأبيات تبدأ بتخيّل الذئب و هو يقترب من بعيد في ظلام الليل، ثم ترى الدخان يتصاعد بينك و بينه، و هنا تبدأ حالة الحذر و الترقّب بين الطرفين. و يضيف الخطاب المباشر الكثير من الدراما إلى المشهد، و خلاصته أن الشاعر يقول: سأكرمك و لكن لا تغدر بي، فنحن أخوان في السفر، حتى لو تحارب أهلنا… و بعد هذه الأبيات الوجدانية و حالة التواصل العفوية بين الشاعر و الذئب، لا يفوت الفرزدق أن يستغل هذا الموقف بذكاء ليمدح قومه كعادته، فهم أهل المكرمات و الفروسية… كأنّ كل هذه المقدّمة كانت من أجل هذين البيتين: و إنّـا لَـتَـرعـى الـوحـشُ آمـنــةً بِـنــا و يَـرْهَـبـُـنــا أنْ نـغـضــبَ الـثـقــلانِ فَـضَـلْـنَـا بـثِـنْـتَـيْـنِ المَـعـاشِـرَ كُـلَّـهُـمْ بـأعْـظَــمِ أحـلامٍ لـنــا و جِــفـــانِ 3- تحليل لوحة الذئب في القصيدة: القصيدة من الشعر القصصي، وهي قريبة من شعر الغزل بهذا الأسلوب، كما إنها تذكرني كثيرا بشعر امرئ القيس وشعر عمر بن أبي ربيعة، في وصف مغامراتهما بأسلوب قصصي مشوق، وقصيدة الفرزدق هنا، تصف لنا ما حدث بين الفرزدق والذئب في تلك الليلة، والملاحظ في هذه القصيدة أن لوحة الذئب في القصيدة مرتبطة بعضها ببعض في تسلسل للأفكار قل نظيره في قصائد أخرى، بحيث شكل هذا التسلسل حبكة مترابطة جعلتنا نحلق معها كقراء مستمتعين بواقعية الحدث القصصي الرائع، مستخدما لغة شاعرية رقيقة وخفيفة على القلب، الأمر الذي أطربنا وجعلنا نعيش حالته الشاعرية في تلك الليلة ، فانتظام أفكار القصيدة بهذا الشكل أكسب القصيدة تآلفا واضحا بين أبياتها بحيث ظهرت الوحدة بينها بصورة جلية، ولم تكن تلك الأفكار مملة أبدا رغم إنها ليست جديدة، فهو - أي الفرزدق- صادق في أفكاره، وصدقه في نظري ليس من الواقعية فحسب وإنما من مقدرته الفنية الرفيعة. ولأنه اهتم برسم أفكاره بحروف القصيد الرائعة، فإن أسلوبها جاء سهلا، خال من الغموض إلا ما ندر، فالألفاظ قريبة جدا من القارئ الجاد، والتراكيب متآلفة فيما بينها، وقريبة من أحاديثنا القصصية العادية، تختلف عن كثير من الشعر، حتى عن شعر الفرزدق نفسه أحيانا، فهي من السهل الممتنع، وقد استطاع الشاعر أن يصور الذئب تصويراً دقيقاً فهو أغبر مضطرب لا يؤمن جانبه. وبما أن الأسلوب يخدم الأفكار ويبرزها للسامع، فإن أسلوب الشاعر قد أدى هذا الغرض؛ فالأفكار في هذه القصيدة أديت بأسلوب يلائمها حيث تحقق غرض الشاعر فيما يريد، وهو وصف نفسه بالكرم والشجاعة. هذا التحليل لظاهر المعنى في لوحة الذئب من القصيدة، إلا إنني لا أظن الفرزدق، ذلك الشاعر المبدع قد قصد نقل هذه الصورة المباشرة، بهذه البساطة، ولكنه يريد أن ينقل لنا أفكارا غير تلك الأفكار الظاهرة للعيان بحيث يجب علينا وضعها تحت المجهر للبحث عن خفايا مقاصده الحقيقية، هو يرسم لنا لوحة مكتملة العناصر، صورة حية متحركة، فيها الديناميكية و فيها التفاعل القائم بين الشاعر والطبيعة التي تنبض بالحياة، هي لوحة متناسقة الألوان، صريحة التعبير، مباشرة في صورتها الظاهرة، لكنها عميقة الدلالة في رمزيتها. لقد عبّر الشاعر من خلال صورة الذئب التي وظفها لخدمة فكرة مستوطنة في نفسه، عبّر عن مشاعره الحقيقة التي تعتمل في صدره، فوجد في الذئب الذي اشتهر بين الناس بصفات يبغضونها؛ فهو خائن، شرس، مكّار، لا يرعى ذمة ولا حرمة، لئيم، مشاكس، وجد فيه متكأ يتكئ عليه في إسقاط ما يختلج في نفسه وقلبه من شعور. ربما كانت المناسبة هي التي أشعلت لهيب الحسرة والغضب والشكوى، وأججت نار معتملة في صدره، فنراه يحدثنا عن الذئب، ويصف لنا مشهداً حقيقيا يوظفه للتعبير عن ذاته، وهنا يتحكم بالشاعر اللاشعور الذي يفصح عن تراكمات لا يمكن له التعامل معها الا بتستره خلف صورة الذئب، وكانت هذه الصورة بمثابة القناع الذي يخفي حقيقة أفكاره، فالذئب الذي في نفس الشاعر ليس هو الذئب الذي اقتسم الزاد معه، إنما هو يحمل صفات الذئب من وجهة نظر الشاعر، وقد استخدم الشاعر حكاية الذئب استخداما موفقا، واستطاع نقل أفكاره بإطار لغوي مكثف، فهو يقول: أطْلَـسَ عَسّـالٍ، وَمـا كـانَ صَاحـبـاً، دَعَـــوْتُ بِـنَــارِي مَـوْهِـنـاً فَـأتَـانــي فَلَمّـا دَنَــا قُـلـتُ: ادْنُ دونَــكَ، إنّـنـي وَإيّــــاكَ فـــــي زَادِي لـمُـشْـتَـرِكَـانِ فَـبِـتُّ أسَــوّي الــزّادَ بَيْـنـي وبَيْـنَـهُ، عـلـى ضَــوْءِ نَــارٍ، مَــرّةً، وَدُخَـــانِ فَـقُـلْـتُ لَـــهُ لـمّــا تَـكَـشّـرَ ضَـاحِـكــاً وَقَـائِـمُ سَيْـفـي مِـــنْ يَـــدِي بـمَـكَـانِ تَـعَـشّ فَــإنْ وَاثَقْتَـنـي لا تَخُـونُـنـي، نَكُـنْ مثـلَ مَـنْ يـا ذئــبُ يَصْطَحـبـانِ وَأنتَ امرُؤٌ، يـا ذِئـبُ، وَالغَـدْرُ كُنتُمـا أُخَـيّـيْــنِ، كَــانَــا أُرْضِــعَــا بِـلِــبَــانِ وَلَـوْ غَيْرَنـا نَبّـهَـت تَلتَـمِـسُ الـقِـرَى أتَــــاكَ بِـسَـهْــمٍ أوْ شَــبَــاةِ سِــنَــانِ وَكُـلُّ رَفيـقَـيْ كــلِّ رَحْــلٍ، وَإن هُـمـا تَـعـاطَـى الـقَـنَـا قَوْمـاهُـمـا، أخَـــوَانِ فهو منذ أن تزوج امرأته "نوار" قد مر في مراحل من المعاناة والبؤس، لدرجة إن شعره شاب قبل الأوان، وهذا دليل على مقدار المعاناة التي يعيشها مع زوجته، إلا إنه لا يستطيع البوح بما يعتمل في صدره بشكل مباشر، ولذلك فقد استخدم الرمز واتكأ عليه ليفصح عما في قلبه: ولَـوْ سُئِلَـتْ عَنـي الـنَّـوَارُ وَقَوْمُـهَـا، إذاً لـــمْ تُــــوَارِ الـنّـاجِــذَ الـشّـفَـتَـانِ لَعَـمْـرِي لَـقَـدْ رَقّقْتِـنـي قَـبـلَ رِقّـتـي، وَأشَعَلْـتِ فــيّ الشّـيـبَ قَـبـلَ زَمَـانـي وَأمْضَحتِ عِرْضِي في الحياةِ وَشِنتِهِ، وأوْقَـــدْتِ لـــي نَـــاراً بِـكُــلّ مَـكَــانِ فَـلـوْلا عَقَابِـيـلُ الـفُـؤادِ الّــذِي بِـــهِ، لَـقَــدْ خَـرَجَــتْ ثِـنْـتَــانِ تَـزْدَحِـمَــانِ فقد اسقط الشاعر ما في نفسه على الذئب، والحقيقة فإن كل أسباب معاناته هي زوجته، التي تعاملت معه بقسوة، فقد ورد في الأغاني أن ابنة عم الفرزدق ، النوار ، خطبها رجل ، فطلبت من الفرزدق - ابن عمها أن يكون وليّها ، فطلب منها أن تُشهد الناس أنّه وليُّها ، فوافقت وأشهدَتهم أنّه وليّها ، فقال : " اشهدوا أنني زوجت النوار من نفسي ، " فغضبت النوار ، وهربت منه إلى الزبير( ) ، وكان واليا على الحجاز والعراق ، واستجارت به فاحتال الفرزدق حتى أعادها ، وتزوّجها ، ويبدو أنّه لم يسعد معها ، فقد تزوّج عليها امرأتين، "فمكثت عنده زمانا، ترضى عنه أحيانا، وتخاصمه أحيانا، وكانت النوار امرأة صالحة، فلم تزل تشمئز منه، وتقول له: ويحك! أنت تعلم إنك تزوجت بي ضغطة وعلى خدعة، ثم لا تزال في كل ذلك، حتى حلفت بيمين موثقة، ثم حنثت، وتجنبت فراشه، فتزوج عليها امرأة يقال لها جهيمة من بني النمر بن قاسط... فلم تزل النوار ترققه وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها"( )، وكانت امرأة ذات دين وخلق ساهما في ابتعادها عنه – فقد عُرف عنه التهاون فيهما - ويظهر أنها كانت تتعالى عليه،:فاعتبرها ناكرة للجميل، فهو الفرزدق؛ الهمام بن غالب الجواد الكريم بن صعصعة منقذ الموءودات من بنات العرب قبل الإسلام ، فهو لا يتقبل الهزيمة من زوجته، ولا يستطيع قبول رفضها له، هو الشاعر الذي تهاب لسانه الرجال، وهذا جوهر القضية، ولكنه لا يستطيع هجاء ابنة عمه نوار كما يهجو الرجال؛ وبذلك، يكون الذئب معادلاً موضوعياً لزوجته، فهو يتساءل قائلا: فَـهَـلْ يَـرْجِـعَـنّ الله نَـفْـسـاً تَشَـعّـبَـتْ عـلــى أثَـــرِ الـغـادِيـنَ كُـــلَّ مَــكَــانِ فأصْبَـحْـتُ لا أدْرِي أأتْـبَــعُ ظَـاعِـنـاً، أمِ الـشّــوْقُ مِـنــي للمُـقِـيـمِ دَعَـانــي وَمَـــا مِـنْـهُـمَـا إلاّ تَــوَلّــى بِـشِـقّــةٍ، مِـــنَ الـقَـلْـبِ، فالعَـيْـنَـانِ تَـبـتَـدِرَانِ رأينا مشهد الذئب يفتتحُ القصيدةَ، وكانت نوّارُ من قبل قد ملكت عليه الكثيرَ من مطالِعِ قصائده حيث كانَ "يتغنّى بها ويحدو باسمِها الركب ليدفَعَ عنهم النُعاس، ويذهب بذكرها خدرَ أعضائِه، فعلَ العشّاق المتيمّين، ويحنّ إليها إذا نأى، ويطرقُهُ خيالُها في الصحراء البعيدة، الموغلة في البعد، فيشمُّ نفحات شذاها العطر، وتتبدّل صحراؤهُ إلى جنّة"( ) فلماذا ابتدأ الشاعرُ القصيدةَ بالذئبِ هذه المرّة؛ أما كان باستطاعتهِ أن يؤجّل هذا المشهد قليلاً؟ ويسيرَ في قصيدتِهِ على عادتِهِ وعادة الكثيرين، من شعراء عصره هل هي رغبة في التجديدِ؛ وكسر عمودِ الشعر؟ أم أنّ شيئاً ما في أعماقِ الفرزدق جعلَهُ يستبدلُ بالذئبِ المرأةَ ـ النّوار؟ هل أرادَ بذلك أن يشبهها بالذئبِ غدراً وخيانةًَ دون أن يصرّح، وقد اشتملت الأبيات على هاتين الصفتين: وأنتَ امرؤٌ، يا ذئبُ والغدر كنتُما أخيينِ، كانا أُرضعا بلبانِ لقد رأيت أن الفرزدق قد حطّ من منزلة الإنسان فأنزله إلى منزلة الحيوان، فصار الذئب معادلا موضوعيا لزوجته، "نوار" فجعلنا نحقد عليها، وذلك بعكس ذئب "الشنفرى" بلاميته المشهورة، عندما رفع منزلة الذئب إلى منزلة الإنسان فصار الذئب معادلا موضوعيا للشاعر نفسه فاختفى الشاعر خلف صورة الذئب، وجعلنا نتعاطف معه، وتمنينا أن نكون أمام ذلك الذئب حتى نقدم له ما يشتهي من الطعام، فهو يقول:( ) وأغدو على القـوتِ الزهيـدِ كمـا غـدا أزلُّ تـهـاداه التَّـنـائِـفُ ، أطـحــلُ غدا طَاويـاً ، يعـارضُ الرِّيـحَ ، هافيـاً يخُـوتُ بأذنـاب الشِّعَـاب ، ويعْـسِـلُ فلمَّـا لـواهُ القُـوتُ مـن حيـث أمَّـهُ دعــا ؛ فأجابـتـه نظـائـرُ نُـحَّــلُ وكان الفرزدقُ قَدْ وظّفَ حكايته مع الذئب بشكلٍ رائع في بداية شطر القصيدة المخصصِ للفخر فقالَ ممهّداً لغايتهِ بنجاح: وإنّا لترعى الوحشُ آمنةً بنا، ويرهَبُنا، أنْ نغضبَ، الثّقلانِ فَضَلنا بثنتين المعاشرَ كّلهم: بأعظمِ أحلامٍ لنا وجفانِ فهل يستطيع الشاعر برأيكم أن يقول البيتين السابقين لو أنه نهر الذئب أو طرده من أمامه؟! أما أنا فلا أظنه يستطيع ذلك. فكيف له أن يقول ما يقوله بأنهم قوم يرعون الوحشوش بحيث تأمن على حياتها عندهم! فهو يبني مفارقة رائعة بين أمن الوحش في مراعي قومه وبين رهبة الإنس والجن من قومه حين يغضبون؟ وهم يتفوقون على بني جنسهم بفضيلتين: أهدافهم النبيلة، وكرمهم الذي لا مثيل له،فهل كنا نقبل بما يقوله عن قومه بهذا القدر من الفخر لو أنه لم يستهل قصيدته بقصته مع الذئب؟ فلوحة الذئب بالقصيدة تشكل الهيكل العظمي في جسم الإنسان الذي يبنى عليه كافة أعضاء الجسم من عضلات تساعده على الحركة والتنقل، ومن أجهزة تساعده على التنفس والحياة، ولذلك لا يمكن التعامل مع هذا المشهد الرائع بسطحية، بعيدا عن علاقته ببقية أجزاء القصيدة، فإلى جوارِ قيم الكرمِ والشجاعة والعطف على الوحش الشرس؛ رصَدَ الشاعِرُ قيمةً مهمّة ونبيلة قد لا يفطن لها كثير ممن يمرّون بالقصيدة، مفادها أن الرحيل في الصحراء ـ وما فيها من قسوةٍ وعطشٍ وجوع وحَرّ ـ يجعَلُ رفيقي الدربِ صديقين حتى ولو كان قوماهما على حربٍ فيما بينهما، فللحربِ والاختصام بين البشر شأن، ولكائنين حيّين يعبران الصحراءَ مسافِرَين إلى مكان ما شأن آخر، عليهما أولاً أن ينتصرا على هذهِ الغول العطشى إلى دمائِهما قبل أن يفكرا بغير ذلك: وكلُّ رفيقي كُلِّ رَحْلٍ وإن هُما تعاطى القنا قوماهُما، أخوانِ لقد استخدم الشاعر في معظم أبياته الجمل الاسمية التي تدل على الثبات فقد افتتح القصيدة بجملة اسمية ابتدأها بحرف الواو(و)، الذي يدل على الاستئناف والاستطراد في الحركة النفسية التي تتفاعل بداخله، " وأطلسَ عسّال" فالفكرة التي تتحرك في نفسه نتيجة حالة المعاناة التي تضغط عليه من الداخل والتي لا يجد طريقة للفضفضة عما به لأي كان، أو حتى من خلال أشعاره، التي كانت بمثابة نافذة واسعة يطل من خلالها على الحياة، فهو يدافع عن نفسه أمام اعتى الشعراء، وأمام أعظم الخصوم، حتى انه هجا الأمراء والولاة في كثير من المواقف، إلا إنه هنا لا يمكن له أن يفصح عما في نفسه بشكل صريح لا لشيء إلا لأن خصمه هذه المرة هي ابنة عمه وزوجته التي أحب" فجرحه بكفه"فهو يقول: وَلَـكِــنْ نَسِـيـبـاً لا يَــــزالُ يَـشُـلُّـنـي إلَــيْــكَ، كَــأنــي مُـغْــلَــقٌ بِــرِهَـــانِ سَوَاءٌ قَرِينُ السَّوْءِ فـي سَـرَعِ البِلـى عَلـى الـمَـرْءِ، وَالعَـصْـرَانِ يَختَلِـفَـانِ تَـمِـيـمٌ، إذا تَـمّــتْ عَـلَـيـكَ، رَأيـتَـهـا كَـلَـيْــلٍ وَبَــحْــرٍ حِــيـــنَ يَـلْـتَـقِـيَـانِ همُ دونَ مَن أخشَـى، وَإنـي لَدُونَهـمْ، إذا نَـبَـحَ الـعَـاوِي، يَـــدِي وَلِـسَـانـي فَــلا أنَـــا مُـخْـتَـارُ الـحَـيَـاةِ عَلَـيْـهِـمُ وَهُـمْ لَــنْ يَبيعُـونـي لفَـضْـلِ رِهَـانـي كما نلاحظ استخدامه لفعل الأمر" أدن، تعشَّ" وهذه دلالة على أن الشاعر يريد ان يقول لنا بأنه صاحب أيادٍ بيضاء على الوحش وعلى الإنسان، تماما مثل أبيه غالب وجده صعصعة، فهو بذلك يمهد لما سيقوله لاحقا عن زوجته التي نبذته وتركته، يريد القول انه مدّ لها يده مفتوحة مثلما قلبه مفتوح على مصراعيه، إلا إنها ترده وتقابله بما لا يحب. لقد طربتُ كثيراً على موسيقا الشعر في هذه القصيدة، فهو يستخدم ألفاظاً رقيقة تعبر عما يجول في قلبه من محبة ممزوجة بحسرة تذيب صخر الجبال، حين يقول: " نَكُـنْ مثـلَ مَـنْ يـا ذئــبُ يَصْطَحـبـانِ" إنني رأيت في هذه الجملة كثيرا من العاطفة والحب، وبنفس الوقت رأيت فيها الرجاء، ورأيت أيضا الحسرة واضحة جلية، هو يحب زوجته ولكنه لا يستطيع كسب ودها لأن طبعه الغالب في لحظات الوعي عنده يختلف تماما عما هو عليه في الباطن. كما وأن اللغة التي استخدمها مكثفة رغم بساطتها وبعدها عن الغريب، فقد تلاءمت الألفاظ مع المعاني التي أرادها الشاعر بشكل كبير، فلا يجد القارئ اية صعوبة في تفاعله مع النص، ناهيك عن الحكمة التي تميزت بها بعض أبياته، قبل أن ينتقل بحسن التخلص من حالة وصف معاناته مع زوجته إلى موضوع الفخر بنفسه وبقومه،إذ يقول: وَكُـلُّ رَفيـقَـيْ كــلِّ رَحْــلٍ، وَإن هُـمـا تَـعـاطَـى الـقَـنَـا قَوْمـاهُـمـا، أخَـــوَانِ كما لاحظت بأنه يوظف الألفاظ القرآنية التي تأتي في النص الشعري بعفوية لا تكلف فيها بحيث يمتزج النص مع بعضه البعض كوحدة واحدة: وَأشَعَلْـتِ فــيّ الشّـيـبَ قَـبـلَ زَمَـانـي وقد ورد هذا اللفظ في الآية القرآنية الآتية:{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا }( ) ولكن الدلالة هنا اختلفت عن الدلالة في الآية القرآنية، إذ إنه يريد القول في القصيدة بان نوار زوجته قد جعلته يهرم قبل أوانه من شدة ما لقي منها من عذاب. أسئلة: (1) ماالذي تتناوله الأبيات ؟ وماهي الوسيلة الأدبية التي اتبعها الشاعر في تناول موضوعه ؟ (2) ما الصفة الغالبة على الذئب ؟ وأين تجد ذلك في النص ؟ وكيف تعامل معها الشاعر ؟ (3) مانوع المعاملة التي عامل بها الشاعر الذئب ؟ وكيف كان سيعامله الآخرون ؟ دلِّل على ما تقول من النص . (4) ماالدليل الذي أتى به الشاعرعلى حسن معاشرته الذئب ؟ ومارأيك فيه ؟ (5) خلع الشاعرعلى الذئب بعض صفات الإنسان ومن ثمّ بدأ الحوارمعه من طرف واحد . بماذا تسمى الصورة البلاغية حينئذ ؟ وضِّح تلك المواضع مسميا ًالأسلوب البياني في كل حالة . (6) ألفاظ القصيدة تناسب موضوعها . وضِّح هذه المقولة مع التمثيل . (7) ماذا يعني بقوله وماكان صاحباً ؟ (8) بماذا يمكن أنْ يُوْصف الشاعرمن خلال البيتين الثاني الثالث ؟ (9) متى التقى الشاعر بالذئب ؟ برهن على ماتقول . قال الفرزدق : وأطلس عـسال وما كـان صاحباً**دعوت بناري موهـناً فأتـاني فلـمّا دنا قلـت أدنُ دونـك إنني** وإيـاك فـي زادي لمشتر كانِ 1- دون استعمال ألفاظ الشاعر– ماهي ثلاث الصفات التي وصف بها الشاعرالذئب في البيت الأول ؟ 2- استعمل الشاعر في بيته الثاني مؤكدين . ما هما ؟ وبم تفسرلجوء الشاعرإلى هذا التأكيد ؟ 3- من أين يأتي هذا الجرس الموسيقي في صدرالبيت الثاني؟ 4- أضبط كلمة " موهنا " التي وردت في عجز البيت الأول ضبطاً تاماً وأى المـشتـقات هي ؟ يقول الفرزدق : أخيـين كانا أرضعا بلـبانِ وأنت أمرؤ يا ذئبُ والغدر كنتما - اشرح بيت الفرزدق أعلاه مبيناً ما فيه من أساليب البيان . - لماذا تعمد الشاعر ذكر كلمة (ذئب) في البيت أعلاه ؟

العلامات:

٨٬٢٥١ مشاهدة

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page